د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
من هو أبو بصير ؟ وما موقفه بعد صلح الحديبية ؟ يجيب الدكتور راغب السرجاني موضحا سيرة الصحابي أبي بصير وموقفه في الحديبية ووفاته رضي الله عنه
من هو أبو بصير ؟
أبو بصير هو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، مشهور بكنيته، هرب من الكفار في هدنة الحديبية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فطلبته قريش ليرُدَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ولمَّا علم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيردُّه خرج إلى سِيفِ البحر، واجتمع إليه كلُّ مَنْ فرَّ من المشركين (1).
ما موقف أبي بصير بعد صلح الحديبية ؟
جاء أبو بصير –رضي الله عنه- إلى المدينة المنورة بعد فترة وجيزة من كتابة صلح الحديبية، وكان يُريد أن ينضمَّ إلى الصفِّ المسلم فرارًا بدينه من أهل الكفر بمكة، ولكن القرشيين أرسلوا في طلبه رجلين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالا له: العهد الذي جَعَلْتَ لنا. فدفعه إلى الرجلين (2).. أرأيت مثل هذا الوفاء؟!
إنه يردُّ مسلمًا جاءه إلى المدينة المنورة، والمدينة أحوج ما تكون إلى الرجال والجند، والرجل مسلمٌ قد يُفْتَنُ في دينه ويُعَذَّب، ومع ذلك يردُّهُ لأن بنود المعاهدة نصَّت على ذلك، وليس له إلاَّ الوفاء.
وقد تعجَّب أبو بصير -رضي الله عنه- نفسه من ردِّ فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقال متسائلاً: يا رسول الله؛ أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟!
قال –صلى الله عليه وسبلم: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، انْطَلِقْ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا»(3).
إن الوفاء بالعهد ليس اختيارًا من الاختيارات عند المسلمين.. إنه واجب لازم، وفريضة حتمية..
وتسلَّم الرجلان القرشيان أبا بصير -رضي الله عنه- بالفعل، وفي الطريق إلى مكة استطاع أن يحتال عليهما، فقتل واحدًا منهما، وفَرَّ الآخر!
تُرى.. إلى أين يفرُّ المشرك الآخر؟!
لقد فرَّ إلى المسجد النبوي!
فرَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!
فرَّ إلى الرجل الذي يعلم أنه سيجد عنده الأمان والسلام، حتى ولو كان الذي يُطارده مسلمًا، حتى ولو كان هو من الكافرين!
إنها آية من الآيات!
دخل الرجل المشرك المسجد النبوي يَعْدُو، فلمَّا رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشفق عليه، وقال: «لقد رأى هذا ذعرًا». فلمَّا انتهى الرجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: قُتل صاحبي، وإني لمقتول! فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد -والله- أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. قال النبي –صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ»(4). أي أن هذا الرجل سيُشعل حربًا لو كان معه رجال.
فلمَّا سمع أبو بصير -رضي الله عنه- هذه الكلمات أدرك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيردُّه إلى المشركين؛ لكي لا تشتعل الحرب، فخرج من المدينة مسرعًا، حتى أتى منطقة سِيف البحر (5)، وعسكر هناك، وبدأ يقطع الطريق على قوافل قريش، وقريش لا تقدر عليه، ولا تستطيع أن تلوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ليس تحت سيطرته، وسمع بمكانه مسلمون آخرون في مكة، فقرَّرُوا أن يلتحقوا به ليكونوا له عونًا على قطع الطريق على قوافل مكة، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، ولحق به سبعون آخرون من المسلمين الذين لا يستطيعون اللحاق بالمدينة لشروط المعاهدة، ولا يستطيعون البقاء في مكة لتعذيب الكفار لهم.
وازدادت حدَّة الصدام بشدَّة بين هذه المجموعة المسلمة وبين قوافل قريش.. حتى اضطُرَّت قريش أخيرًا إلى أن تذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وترجوه أن يُلْحِقَ هؤلاء به(6)، ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُريد حقيقةً أن يتعايش في سلام مع مَنْ حوله من المشركين فإنه قَبِلَ بذلك، وضمَّهم إليه، ولو شاء لتركهم يُنَغِّصون على قريش حياتها، ويُضعفون قوَّتها، ويستنْزِفون ثرواتها، ولكنه كان يتعامل مع قريش في صفاء نفس لا يُدركه إلاَّ مَنْ عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
1- انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 3/145، وابن الأثير: أسد الغابة 3/454، وابن حجر: الإصابة، الترجمة (5398).
2- البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، (2581)، وأحمد (18948)، وابن حبان (4872).
3- ابن هشام: السيرة النبوية، 2/323، والطبري: تاريخ الرسل والملوك2/638، وابن سيد الناس: عيون الأثر، 2/169.
4- البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، (2581)، وأحمد (18948)، وابن حبان (4872).
5- سِيف البحر: أي ساحله، وهذا المكان عينه ابن إسحاق فقال: «حتى نزل العِيص»، قال: وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام. وقال ابن حجر: وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل. انظر: فتح الباري 8/283.
6- البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، (2581)، وأحمد (18948)، وابن حبان (4872).
التعليقات
إرسال تعليقك